الجمعة، 14 ديسمبر 2012

انطولوجيا العتمة في شعر اللبنانية سوزان عليوان


فوزي الديماسي - تونس 

جريدة العرب 26 ديسمبر 2005

للشّعر فعل المرافئ، به تلوذ القوارب المرتجفة التّائهة، وللشّعر فعل الأقمار المستوية على سوق مرتعدة تصارع الضّياع و العتمة، وللشّعر فعل المرآة العاكسة لقبح الزّمنين الذّاتى والفيزيائيّ فهو بطريقة مختزلة لماهيّة الشّعر ولتعريف حدّه وحدوده موطن الحيارى لحظة البوح العصيّ؛ موطن المغتربين عن ذواتهم فى عرض التّيه؛ ولقد جاء ديوان “لنتخيّل المشهد” للشّاعرة اللّبنانيّة سوزان عليوان مصداقا لقول النّاقد كايد هاشم الّذى لخّص تجربة الشّاعرة فى مفهومين عميقين يختزلان تجربة الشّاعرة برمّتها “اغتراب الرّوح…و قلق المصير” إذ الدّيوان يزخر بعديد المواطن الّتّى تتعانق فيها الكلمات و الظّلمات على قارعة شجن عنيد لترفع الحجاب عن بواطن العدم ومواقع الألم المتربّصة بالذّات الشّعريّة – الجريحة، المغروس جرحها فى الحروف الرّافلة فى الحلوكة النّاجمة عن وجود ناسل من غياهب الوحشة اللائذة بسطور القصائد العاوية فى قاع الأنين المسرج لمطايا الاغتراب والإفراد الباعث من عمق المأساة المسيّجة بالوحدة والفراغ لدمعة مضرّجة فى سماء داكنة جوفاء إلاّ من قلب صغير بحجم الكفّ يحوى بين جنبيه حزنا بحجم العويل أسباب الوحشة:



فى العمق/ينتفض قلبها/صغيرا/خائفا/قبر طفل .
هكذا تشرق الكلمات ذابلة،پوبحروف رقيقة تنبئ بتلبّس الطّفلة بالرّقّة غير المشوبة بذئبويّة الكبار كلمات غير حوشيّة أو مشوبة بالقوّة والصّلف ؛ إنّها كلمات منكسرة وموغلة فى العتمة والبراءة المعتّقة، حيث القلب صنو الطّفل؛ وحيث الشّاعرة الجسد شبيهة القبر لبرود يعترى العلاقة التّى تربطها بالآخر والمكان فى ظلّ قلب نابض بالحياة والدفء يبحث بكلّ ما أوتى من طفولة واندفاع وانطلاق وصفاء سجيّة عن الآخر المحطّم لقيود الغربة والاغتراب إلاّ أنّ النّصف الآخر لصيق بالذّبول والشّحوب ومتلبّس بالفرار؛ كلّهم مجتمعين يسبحون بأجنحة جريحة فى فضاء شعريّ ملفوف فى الشّجن يمشّط خوفه على حافة غياب متنمّر خلف الشّمس المفارقة لأرض التّدانى واللّقاء؛ علاقة جليديّة هى العلاقة الرّابطة بين الشّاعرة والفضاء الشّعريّ الباهت والنّازف والمطلّ من شرفة الدّموع ذات خريف شعريّ تساقطت فيه العواطف الجيّاشة تاركة وراءها شجر الفرح عاريا إلاّ من حزنه النّاتج عن تفشّى الفراق القاتل لقلب فقد نصفه الآخر المورّط فى التّنائى رغم التّدانى المبنيّ على أرضيّة هشّة قاحلة لا تنبت فرحا ولا يينع فيها الحبّ إذ قلب المحبّ موغل فى إنّيته العقيمة؛ الثّخينة والمنغلقة على عتمة نافخة من سوادها فى جناحيّ المنغلق على ذاته رغم الانفتاح الزّائف والزّائل بفعل البعد المولّد للفراق بين جنبى مكان غائب بالحضور لا يتحدّد من خلاله جوهر الذّات الشّاعرة وأسباب الانتماء لآخر يؤصّل الأنا الشاعرة:
رأسها على كتفه/زهرة ليمون على غصن مكسور/شاحبة/شاردة/شبح يواجه غيابه/فى مرآة عميقة .
وضع ينبئ بالفراق المديد، حتّى المرآة أصابها العقم؛ لا تعكس إلاّ دواخلها المحطّمة؛ مرآة مغتربة خلعت عنها دورها فأصبحت ولاّدة موت كما الغصن المكسور الّذى ينوء بالفراغ المعربد فى أحلام الشّاعرة المرتبطة بالآخر ارتباط طرفى جدليّة الغياب الماثلة بين قطبين أجردين من كلّ دفء ينفخ فى التّدانى سبل اللّقاء؛ فينسل الدّمع من الدّمع؛ كما لا تلد العتمة إلاّ مثيلتها متبادلين معانى الدّيجور مثلا بمثل فى ظلّ كلمات رقيقات تجلس داخل المجموعة الشّعريّة إلى جذع جفوة تسّاقط منه عليها الأشجان غزارا وعلى الحافة الأخرى لوادى الفراق الموسوم بالدّيمومة يقف الحبيب فى ذهوله وعجزه يستوقفها ويستدعى ضحكاتها فلا تلبّي؛ ذبول يغازل شبيهه، وقفر معتّم يداعب قفرا معتّما مثله ليلدا فى حضورهما المتلبّس بالغياب وفى عناقهما المحكوم بالتّنائى الظّلمة القاهرة للتّدانى التّائه على متن وحشة زئبقيّة تمخر عباب الجفوة والتّمنّع المستأسد فى منعطف الحب المستحيل، الحبّ المنفوش فى شرفة جليدية موصدة لا خيط يربطها بنور الفجر المنبثق من شقوق أمل مهترئ فقد صوابه وضيّع دربه مع من ضاع ممن يضفون على الشاعرة سبل الإنتماء لمكان تطلبه ولا تدركه يكون لقلبها الطفل الجسد الحياة لا الجسد القبر كما وصفت:
بلا أمل/بأصابع من مطر/يتشبّث بطرف منديلها الأزرق/ويبكى .
وللبكاء حكمته فى وصف الأشياء؛ إذ الدّموع كواكب منثورة ومتزاحمة فى سماء هذه العلاقة المنذورة للتّيه وللاغتراب النّاتج عن اغتراب الرّوح المملوءة بالضّوء الأخرس الباهت والمغلول أمام كثافة الظّلام الموحش والبانى للوحدة وللأشجان والزّارع فى كلّ درب لبذور الفراغ السّرمدى الجاثم على صدر القصائد يعكس تقهقر الضّوء فى مدن الضّباب المبثوثة على خارطة النّفس الثّخينة والوديعة والمنطوية على أسئلة محرقة حبلى بأحاديث الهجر والفراق والعودة للبراءة والصّفاء والطّفولة الطّبيعيّة من ذلك نجد الشّاعرة تشبّه نفسها بالطّفل والطّفلة والقطّة ولعلّ وجه الشّبه الجامع بين كلّ هؤلاء هو البراءة الحائرة فى عالم اتّسم بالبعد والفراغ والخواء والبحث الحثيث عن رفقة تكسبها شرعية الوجود على مذهب الفلسفة الهيغلية:
قطّة بكثافة غيمة/بقتامة قلبه حين تهدّده بالهجر/بحجم قلبها حين يخاف/تنقّط على شرشف اللّيل نجوم عينيها/دموعا سوداء .
فالنّصف الآخر فى برود عواطفه، وشحوب حضوره يبقى أرضا قاحلة بمنأى عن الخصب والعطاء؛ فمثله كمثل عين موصدة الجفون تقف دون زيارة القمر والنّجوم والضّياء حاكمة على علاقتها بطفلة كهلة بالموت المحقّق؛ والشّاعرة بين هذا وذاك طفلة بريئة ينقصها الانطلاق لمناعة سور الوحدة وقضبان الوحشة وسلبيّة الآخر وبراءتها التى نستشفها من كلماتها البسيطة فى مفرداتها و العميقة فى معانيها:
بعد أن كانت لؤلؤة بين كفّيه/نقلت/من بين ذراعيه/دمعة/لا يتّسع لأنهارها/منديل … .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق